
يشهد الشرق الأوسط تصعيدًا مستمرًا في الأوضاع الأمنية والسياسية، خاصة في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على غزة في فلسطين وجنوب لبنان وأجزاء من سوريا. في هذا السياق، تلعب الوساطات الدولية دورًا حيويًا في محاولة خفض حدّة التوتر وإيقاف دائرة العنف التي تأكل من حياة شعوب المنطقة وصمودها، لكن غياب حلول سياسية دائمة يفاقم أزمة الملايين من المدنيين ويهدد الاستقرار الإقليمي بشكل أوسع، مع العلم ان الولايات المتّحدة المنحازة بشكل تام الى اسرائيل بامكانها وبكبسة زرّ أن تكبح جماح رئيس الوزراء الاسرائلي المجنون بنيامين نتانياهو، فتعطّل المجازر الّتي يرتكبها.
الوساطات الدولية والتصعيد…
تمثل الوساطات الدولية، بقيادة الأمم المتحدة إلى جانب جهود دول مثل الولايات المتحدة، قطر، مصر، وفرنسا،الآليات الرئيسة التي تحاول كبح جماح استمرار النزاع. وتتمثل هذه الوساطات في:
- إدارة وقف إطلاق النار والتفاوض على هدنة زمنيّة، كما حدث في اتفاقيات التهدئة الأخيرة في غزة وامتداد وقف إطلاق النار في جنوب لبنان حيث التزم الجانب اللبناني دون الجانب الاسرائيلي الّذي استمرّت اعتداءاته واحتجازه للرهائن اللبنانيين واحتلاله للتلال الخمس جنوبا، ناهيك عن الانتهاكات اليومية لحرمة الاجواء اللبنانية ومواصلة غاراته واغتيالاته، فهل هناك من آمال لوقف الاعتداءات وما يتيح فرصًا لإيصال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزّة ويخفف الضغط على المدنيين؟!.
- التسويات الجزئية المرتبطة بترسيم الحدود وإطلاق الرهائن لدى اسرائيل وحل القضايا الأمنية العالقة عبر مجموعات عمل يجري تنسيقها بين الاطراف المعنية بإشراف دولي.
- دعم الجهود الدبلوماسية للمساعدة على دفعالحكومةفي لبنان وسوريا لاستقرار مؤسسات الدولة في البلدين، ما يسهم في تحرّكأصوات سّياسية موحدة وقادرة على تمثيل مصالح الشعبين من خلال المفاوضات.
هذذا ويؤكّد الخبراء أن الوساطة اليوم ليست فقط لتوقيف القتال، بل إن إنجازات ارساء سلام حقيقي في المنطقة تتطلب عمليات تفاوض معقّدة ومتعددة المراحل تشمل معالجة جذور الصراعات التاريخية والاقتصادية.
الى ذلك فإنّ تأثير غياب الحلول المستدامة على حياة الشعوباو غياب أي حل دائم وشامل للنزاعات في المنطقة يفاقم الأزمات الإنسانية بشكل دراماتيكي، فتتدهور أوضاع ملايين المدنيين (وهذا ما نراه حاليًّا من ابادة تجويع للسكان الفلسطينيين المدنيين في غزّة) مع تدمير المساكن والبنية التحتيّة الأساسيّة مثل المياه والكهرباء والرعاية الصحية. ويزداد النزوح الداخلي والخارجي (يتكرر هذا الامر في لبنان منذ بداية الحرب السوريّة ومع الانقلاب الّذي حصل واطاح بنظام بشّار الأسد)، ما يفاقم أزمات النازحين واللاجئين ويضغط على دول الجوار؛ مماسيزيد من هشاشة المجتمعات ويقلّص فرص التنمية الاقتصاديّة المستدامة. ويصبح الخطر الحقيقي اكبر بكثير مع تضخّم الفجوات الاجتماعية والسياسية، ويزداد انعدام الثقة بين الأطراف، وهو ما يؤدي إلى ضعف شرعيّة الدول ويقوّي نفوذ الجماعات المسلحة غير الحكومية، وتحرّك الخلايا الارهابيّة. كما أنّ التأثير البيئي المتزايد نتيجة العمليّات العسكرية يلحق ضررًا باستدامة الموارد الطبيعية، مما يشكل تهديدًا إضافيًا للمعيشة والأمن الغذائي.
وبالرغم من التعقيدات الّتي برزت مع اندلاع حرب “طوفان الأقصى” وحتى يومنا هذا، هناك نماذج ناجحة تسوية سياسية جزئية يمكن الاستفادة والتعلم منها نذكر على سبيل المثال:
- اتفاق الطائف في لبنان (1989) الّذي بالرغم من عوراته والخلل الموجود فيه أعاد التوازن السياسي بعد سنوات من حروب الآخرين على الارض اللبنانية، من خلال الضغط لإشراك جميع الأطراف في تسوية شاملة وضع أساساً للاستقرار النسبي.
- العملية السياسية في العراق بعد 2003،حيث استدامت هيكليات سياسية تمثل تيارات متعددة، رغم التحديات العديدة، ما ساهم في تقليل العنف المباشر بين الأطراف المختلفة.
- جهود الوساطة في اليمن الّتي جرت، حيث لعبت الأمم المتحدة ودول عدة دورًا في التوصل لهدنة موقتة بين الحوثيين والحكومة، مع ضمان مراقبة تنفيذ الاتفاق وإشراك الأطراف المحلية.
وتدل هذه الأمثلة على أهمية الشموليّة السّياسية والاعتراف بجميع الأفرقاء دون أي تهميش، بالإضافة إلى دعم دولي مستمر يربط بين وقف العنف والتحول السياسي.
أما بالنسبة الى تأثير التوترات الإقليمية على بناء الثقة،فإنّ تعقيدات الوساطات تزداد بفعل التوترات الإقليمية الكبرى بين دول ذات النفوذ في المنطقة مثل إيران والسعودية، وكذلك اختلاف مصالح القوى العالميّة. هذه التوترات تؤدي إلى، زيادة الإحجام عن تقديم التنازلات، حيث تترسخ مواقف متشددة خشية فقدان مكاسب استراتيجية. كما ان تداخل النزاعات المحلّية مع الصراعات الإقليميّة، يحوّل كل أزمة إلى جزء من صراع أكبر ذو أبعاد دينيّة وإيديولوجّية وجيوسياسيّة. ويجعل من ضعف قنوات التواصل بين الأطراف، يُعقّد جهود بناء الثقة ويؤجّج سوء الفهم ويزيد احتمالات الانزلاق للعنف.
مع ذلك، يبقى وجود مبادرات تُظهر جدية في تقليل التوترات عبر التفاوض على ملفات محددة كالحدود ومناطق النفوذ والملفات الإنسانيّة. واستعمال آليات متعدّدة الأطراف وبناء حوار تقني وسياسي متدرج من الخياراتالضروري ضروريًا لفتح قنوات ثقة حقيقية.
في الخلاصة تشكّل الوساطات الدولية أحد أهم الأجزاء في جهود خفض التصعيد في الشرق الأوسط المتوتر، لكنها ليست بديلاً عن حلول سيّاسية شاملة ودائمة تعالج جذور النزاعات. فغياب هذه الحلول المستدامة يُفاقم معاناة السكان ويهدد استقرار المنطقة بأكملها. ويمكن للمجتمع الدولي والمنطقة الاستفادة من تجارب ناجحة سابقة عبر اعتماد مبدأ الشمولية السياسية، ربط وقف العنف بعملية سياسية، وتخفيف التوترات الإقليمية لبناء ثقة حقيقية بين الأطراف المتنازعة. ويتطلب النجاح في هذا المضمار إرادة سياسية قوية، دعم دولي فعال، وتركيز على الإنسان كقالب لأي حلّ مستدام.
ج س