انتخابات الجنوب… دلالات محلية وانعكاسات وطنيّة

تُعد الانتخابات البلدية والاختيارية التي جرت السبت الفائت في محافظتي الجنوب والنبطية استحقاقاً ديمقراطياً طال انتظاره في لبنان. هذه الانتخابات، التي أُجريت في 24 أيار 2025، تأتي بعد سلسلة من التأجيلات المتكررة، بسبب تزامنها مع الانتخابات النيابية، ثم الفراغ الرئاسي عام 2023، وأخيراً العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان الذي توسع في أيلول 2024.

تكتسب هذه الانتخابات أهمية خاصة كونها جرت في ظل ظروف استثنائية، حيث أُجريت على “أنقاض الحرب” والدمار غير المسبوق الذي ألحقته إسرائيل بالجنوب، وفي ذكرى التحرير. إن مجرد إقامة هذا الاستحقاق الديمقراطي، لا سيما في المناطق التي تعرضت لدمار واسع، يؤكد إرادة الحياة والصمود لدى اللبنانيين. هذا الفعل يعكس رسالة قوية عن تصميم المجتمع على استعادة الحياة الطبيعية والحكم الذاتي، حتى لو كان ذلك رمزياً، في مواجهة التحديات الوجوديّة. إنه يبرز دافعاً مجتمعياً لتجاوز الأزمة الفورية والتركيز على الجوانب الإنمائية، حتى مع وجود تيارات سياسية قوية. على الرغم من طابعها الإنمائي المعلن، فإن هذه الانتخابات غالباً ما تتحول إلى اختبار مبكر للنفوذ السياسي وموازين القوى بين الأحزاب التقليديّة، وقد تكون مؤشراً على شعبية وقوة الأحزاب في الانتخابات النيابية المقبلة.

نسب تتراجع

أظهرت الأرقام النهائيّة لنسب الاقتراع في محافظتي الجنوب والنبطية تراجعاً ملحوظاً مقارنة بالانتخابات البلدية لعام 2016. فبلغت نسبة الاقتراع النهائية في محافظة الجنوب 36.42%، وفي محافظة النبطية 31.41%.

وتوزعت النسب في الأقضية الرئيسية كالتالي:

صيدا: 42.05%

النبطية: 36.37%

جزين: 43%

حاصبيا: 37%

مرجعيون: 36%

بنت جبيل: 27%

صور: 38.57%

شهدت هذه النسب تراجعاً في معظم الأقضية السبعة مقارنة بعام 2016. ففي صيدا، على سبيل المثال، تراجعت النسبة 7% عن انتخابات 2016.

يعكس هذا التراجع في نسب المشاركة عدة دلالات. فبينما يُعزى جزء منه إلى فوز عدد كبير من البلديات بالتزكية، مما يقلل من الحاجة لمشاركة الناخبين، إلا أنّ عوامل أخرى مثل النزوح بسبب الصراع، والضائقة الاقتصاديّة، وحالة الإحباط السياسي العام، لعبت دوراً كبيراً. إنّ فوز العديد من القرى بالتزكية يعني عدم وجود اقتراع فعلي فيها، مما يؤثر على النسبة الإجماليّة. هذا الانخفاض قد يشير إلى لامبالاة عامة، أو فقدان الثقة في العملية السياسية، أو إعطاء الأولوية للبقاء على قيد الحياة في بيئة تعصف بها الأزمات. كما يشير إلى أن المنافسة حيثما وجدت، كانت أكثر حدّة، مما دفع إلى مشاركة أعلى. كما أن ظاهرة التزكية تؤكّد ترسيخ القوى التقليديّة لنفوذها، حيث تكون المنافسة إما غير موجودة أو يتم قمعها.

لتوضيح هذا التراجع، يمكن مقارنة نسب الاقتراع في بعض الأقضية بين عامي 2016 و2025:

المحافظة/القضاء نسبة الاقتراع 2016 (تقريبية) نسبة الاقتراع 2025 (حتى الساعة 6-7 مساءً) الفرق
الجنوب (كمحافظة) ~42.75% 11 36.42% 10 -6.33%
النبطية (كمحافظة) 36.37% 31.41% -4.96%
صيدا 45% 11 42.05% -2.95%
جزين 43% 43% 0%
حاصبيا 37% 37% 0%
مرجعيون 32% 36% +4%
بنت جبيل 29% 11 27% -2%
صور 39% 11 38.57% -0.43%

 

تجدر الاشارة الى أن نسب 2016 تقريبية بناءً على المقارنات المذكورة في المصادر، والنسب النهائية لـ2025 هي حتى الساعة 6-7 مساءً.

النتائج هيمنةوتأثير

شهدت الانتخابات البلدية في الجنوب مزيجاً من التوافقات السياسية التي أدّت إلى فوز عدد كبير من البلديات بالتزكية، وتنافسات حادة في مدن وقرى رئيسية.

كانت ظاهرة التزكية هي السّمة الأبرز في هذه الانتخابات، حيث تجاوز عدد البلدات التي فازت بالتزكية 100 بلدة في محافظتي الجنوب والنبطية، من أصل حوالي 272 بلدة. هذا العدد الكبير من الفوز بالتزكية ليس مجرد تفصيل إداري؛ بل يكشف عن واقع سياسي عميق. عندما تفوز لائحة بالتزكية، فهذا يعني عدم وجود منافسة انتخابية، وغالباً ما يكون ذلك نتيجة لاتفاقات مسبقة أو هيمنة ساحقة لقوة سياسية معينة. في الجنوب، يشير هذا بشكل كبير إلى “الثنائي الشيعي” (حركة أمل وحزب الله). هذا يدل على أن آلتهم السياسية ونفوذهم قويّان جداً في العديد من المناطق، لدرجة أنّ المعارضة إمّا غير موجودة أو تختار عدم خوض المنافسة، مما يعزّز سلطتهم دون الحاجة إلى حشد الناخبين بشكل كبير.

فازت لوائح “التنمية والوفاء” المدعومة من حركة أمل وحزب الله بالتزكية في أكثر من أربعين بلدية بقضاء صور، و11 بلدة في قضاء النبطية، بالإضافة إلى العديد من القرى الأخرى في بنت جبيل ومرجعيون، مثل برج قلاوي، خربة سلم، قلاوي، بيت ياحون، الغندورية، صربين، عيناتا، كفردنين، بيت ليف، ياطر، الطيري، مارون الراس، ورشاف. وفي مدينة النبطية، فازت لائحة “التنمية والوفاء” المكتملة من 21 عضواً، والتي يرأسها القيادي في حزب الله عباس فخر الدين، مع نيابة الرئيس من حصة حركة أمل. هذا يعزز الفكرة بأن الحكم المحلي في مساحات واسعة من الجنوب يظلّ متوافقاً بقوّة مع الأحزاب السياسية المهيمنة، مما يحد من الخيارات الديمقراطية في هذه المناطق ويعزز هياكل السلطة القائمة.

صيدا وعودة “الأزرق”

في مدينة صيدا، عاصمة الجنوب، فازت لائحة “سوا لصيدا” برئاسة مصطفى حجازي، المدعومة من “الحريرية السياسية” (بهية وأحمد الحريري)، بـ11 عضواً من أصل 21 عضواً في المجلس البلدي. هذا الفوز ضمن لحجازي رئاسة البلدية دون الحاجة لتفاهمات مع اللوائح المنافسة.

تجاوز انتصار لائحة “سوا لصيدا” كونه مجرد فوز محلي. يأتي بعد عزوف سعد الحريري عن خوض الانتخابات النيابية السابقة. المصادر تربط هذا النجاح البلدي صراحة بـ”إعادة ترتيب بيت التيار الأزرق في صيدا” وباحتمال “وجود نيّة لدى جمهور المستقبل لخوض الانتخابات النيابية في ربيع 2026”.هذا يشير إلى أنّ الانتخابات البلديّة تُستخدم كساحة اختبار أو نقطة انطلاق لعودة سياسية أوسع على المستوى الوطني. المصالحة الاستراتيجية بين الحريري ويوسف النقيب قبل المعركة البلدية تدعم هذا التفسير. هذا التطور يمكن أن يغير المشهد السياسي السنّي في لبنان بشكل كبير، فعودة تيار المستقبل المحتملة إلى الانتخابات النيابية ستعيد لاعباً رئيسياً، مما قد يعيد تشكيل التحالفات والمنافسة، خاصة ضد القوى السنّية الأخرى ومجموعات “التغيير”.

شهدت النتائج في صيدا إخلالاً بالعرف المتبع بتمثيل الشيعة والمسيحيين بعضوين لكل منهما، ليقتصر على عضو واحد لكل منهما، فازا على لائحة حجازي، بدعم من حركة أمل وبعض العائلات الشيعية. هذا يظهر كيف يمكن للديناميات المحليّة أن تعكس أو حتى تؤثر على مناقشات أوسع حول تقاسم السلطة الطائفي.

جزين والنفوذ المسيحي

تحولت معركة جزين وقضائها إلى مواجهة سياسية حادة، تُعتبر بمثابة اختبار مبكر للانتخابات النيابية المقبلة. يسعى “التيار الوطني الحر”، الذي خسر مقاعده النيابية الثلاثة في جزين عام 2022 لصالح “القوات اللبنانية”، لاستعادة موطئ قدم بلدياً.

خاض التيار الانتخابات بتحالف واسع مع النائب السابق إبراهيم عازار، المقرب من رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وتفاهم غير معلن مع “الثنائي الشيعي”. هو محاولة واضحة لاستعادة الأرض المفقودة، ويشير إلى استعداد التيار لتشكيل تحالفات عابرة للطوائف لتحقيق أهدافه السياسية. في المقابل، واجهت لائحة “بلديتكن مستقبلكن” المدعومة من “القوات اللبنانية” انقسامات داخلية، مما أثر على تماسكها.

تُعدّ جزين “أم المعارك” ومرآة للصراع المسيحي الأكبر. إن السياق التاريخي لخسارة “التيار الوطني الحر” أمام القوّات اللبنانية في انتخابات 2022 النيابية يرفع من أهميّة هذه المعركة البلديّة. النّتيجة في جزّين ستكون مراقبة عن كثب لأنّها تعكس الديناميكيّات المتغيّرة داخل الساحة السياسية المسيحيّة وإمكانيّة ظهور تحالفات جديدة قبل انتخابات 2026 النّيابية. ونجاح تحالف “الوطني الحر” قد يشير إلى مسار لعودته في الجنوب، بينما سيشير أداء “القوات” إلى قدرتها على الحفاظ على زخمها رغم التحدّيات الداخلية.

ونتائج أخرى تدلّ على أهميّتها البارزة ظهرتنتائج الانتخابات في قضاء حاصبيا، كما تم الإعلان عن نتائج قضاءي مرجعيون وبنت جبيل أيضاً.

تثبيت نفوذ وتراجع “التغييريين”؟!

أكدت نتائج الانتخابات البلدية في الجنوب على تثبيت نفوذ الأحزاب والزعامات التقليديّة في معاقلها. فبالرغم من الأزمات العميقة التي يمر بها لبنان (انهيار اقتصادي، فراغ سياسي، حرب)، تُظهر النتائج إعادة تأكيد قوية لهيمنة الأحزاب التقليديّة، خاصة “الثنائي الشيعي” في الجنوب. وهذا يشير إلى أنّ هياكل الولاء والآلة السياسية لهذه الأحزاب لا تزال سليمة إلى حدّ كبير، حتى في مواجهة الاستياء العام أو دعوات التغيير الواسعة. وقوى “التغيير” التي حققت بعض الزخم في انتخابات 2022 النّيابية، يبدو أنها واجهت صعوبة في ترجمة ذلك إلى مكاسب بلدية. وهذا يؤشّر إلى استمرار التحدّي لأيّ إصلاح سياسي حقيقي أو حركات “خارجية”.

في سياق متّصل، تُعتبر هذه الانتخابات البلدية اختباراً مبكراً للانتخابات النيابية المقبلة في ربيع 2026. فالتحالفات التي تشكلت على المستوى البلدي، مثل تحالف “الوطني الحر” مع عازار و”الثنائي الشيعي” في جزين، أو إعادة انخراط “الحريرية السياسية” في صيدا، ليست حوادث معزولة. إنها خطوات محسوبة من قبل اللاعبين السياسيين الرئيسيين لقياس الرأي العام، واختبار تحالفات جديدة، وتموضع أنفسهم للدورة الانتخابية الوطنية المقبلة. فالنتائج المحلّية توفر بيانات قيّمة حول فعاليّة هذه التحالفات الجديدة والمشهد الانتخابي المتغير. اضافة الى أن الأداء القوي سيعزز الأحزاب لمتابعة تحالفات مماثلة، بينما قد تجبر الانتكاسات على إعادة تقييم.

وعلى الرغم من أن الانتخابات البلدية لا تؤثر بشكل مباشر على أي شغور رئاسي محتمل أو تشكيل حكومة، إلا أنّ موازين القوى الجديدة التي تفرزها يمكن أن تنسحب على المفاوضات السياسية وتوزيع النفوذ. في البيئة اللبنانية شديدة التسييس، غالباً ما تصبح الانتخابات البلدية وكيلاً للصراعات على السلطة الوطنية. لا سيّما ان النتائج، وخاصة انتصارات وخسائر الأحزاب الكبرى، توفر نقاط بيانات جديدة للقادة السياسيين عند التفاوض على قضايا وطنيّة مثل الفراغ الرئاسي أو تشكيل احكومة. فالحزب الذي يكسب أرضاً على المستوى المحلي قد يشعر بقوة أكبر في المطالبة بتنازلات على المستوى الوطني، والعكس صحيح. وهذا يعزز الترابط بين السياسات المحلية والوطنية في لبنان.

تحدّيات بلديّة

تواجه المجالس البلدية المنتخبة حديثاً مهاماً جسيمة، خاصة في ظل الدمار الهائل الذي لحق بالقرى والبلدات الحدودية جراء الحرب الإسرائيلية. والعديد منها دُمرت فيها مقومات الحياة بالكامل. كما إن سياق “الانتخابات على ركام الحرب”  يغير بشكل أساسي ولاية المجالس المنتخبة حديثاً. فبينما كانت المناورات السياسية واضحة في المناطق المتنافس عليها، فإنّ التحدي الأكبر للعديد من البلديات، خاصة تلك المتضررة مباشرة من الصراع، سيكون البقاء من الهواجس الأساسيّكما وإعادة الإعمار. وسينصب التركيز بشكل أقل على “المشاريع الإنمائية” التقليدية  وأكثر على الاحتياجات الفوريّة مثل الإسكان والبنية التحتية ودعم السكان النازحين. مما يتطلب نوعاً مختلفاً من القيادة وتعبئة الموارد، وغالباً ما يتجاوز النطاق البلدي المعتاد.

تتطلب عملية إعادة الإعمار جهوداً كبيرة، بما في ذلك توثيق التراث العمراني وتطوير خطط تفصيليّة لكل بلدة، بالإضافة إلى دور البلديات في تحديد الخسائر بدقّة باستخدام التقنيات الحديثة. وتشمل التحديات أيضاً الفساد والتعقيدات الإدارية. وقد أكد بعض المسؤولين أن إعادة الإعمار ليست من مهمّة البلديات بل مسؤوليّة الدولة والأحزاب، مما يلقي بظلال من الشكّ على قدرة البلديّات بمفردها على تحمل هذا العبء.

يتوقع المواطنون أن تقوم مجالسهم البلدية المنتخبة حديثاً بمعالجة القضايا الملحّة والفوريّة مثل إعادة الإعمار والخدمات الأساسية والتعافي الاقتصادي، خاصة في ظلّ سياق الحرب والأزمة الاقتصادية. ومع بعض التصريحات الّتي تلقي إعادة الإعمار على عاتق الدولة في المقام الأول، وليس البلديات، سنرى في المستقبل القريب فجوة محتملة بين توقعات الجمهور والقدرة الفعليّة أو الولاية المحدّدة للمجالس المحلّية، خاصة عند مواجهة دمار هائل وتعقيدات إداريّة، قد تؤدّي إلى الإحباط وزيادة تآكل الثقة في الحكم إذا لم تتمكن المجالس الجديدة من تلبية هذه التوقعات العالية.

جنوب انتخب ولبنان يترقب

أظهرت الانتخابات البلدية والاختيارية في جنوب لبنان مزيجاً من التوافقات السياسية التي أدّت إلى فوز عدد كبير من البلديات بالتزكية، وتنافسات حادّة في مدن وقرى رئيسية مثل صيدا وجزين. وعززت النتائج نفوذ القوى التقليديّة، خاصة “الثنائي الشيعي” و”الحريرية السّياسية” العائدة، بينما تراجعت نسب المشاركة الإجماليّة مقارنة بعام 2016، مما يعكس تحدّيات الواقع اللبناني.

تُعدّ هذه الانتخابات مؤشراً مهماً على التحالفات المحتملة في الانتخابات النيابية المقبلة عام 2026، وقد تؤثر بشكل غير مباشر على مسار الاستحقاقات الوطنية العالقة بما في ذلك احتمال حدوث فراغ رئاسي وتشكيل حكومة. وفيما تتجه الأنظار الآن إلى المجالس البلدية المنتخبة، التي تواجه تحديات جسيمة تتجاوز الجانب الإنمائي التقليدي، لتشمل إعادة الإعمار في ظل ظروف اقتصادية وأمنية صعبة،يبقى أن الجنوب اللبناني، بانتخاباته، يؤكد مجدداً على إرادة الحياة والصمود في وجه التحدّيات، فيما يترقب لبنان بأكمله كيف ستنعكس هذه النتائج المحلّية على مشهده السياسي العام.

 

ج.س

زر الذهاب إلى الأعلى