
يُعتبر لبنان من الدول التي تواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها الحديث. منذ عام ٢٠١٩، دخل الاقتصاد اللبناني في حالة انهيار شامل، مما أدى إلى تفاقم الفقر، وتدهور قيمة العملة الوطنية (الليرة اللبنانية)، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم. الأزمة ليست فقط اقتصادية بل تمتد إلى أبعاد سياسية واجتماعية ومعيشية، مما يجعل التعافي عملية معقدة وصعبة تتطلب إصلاحات جذرية وإرادة سياسية قوية.
ومن الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية، سوء الإدارة المالية والفساد، حيث على مدى عقود، اعتمدت الحكومات اللبنانية على سياسات اقتصادية غير مستدامة، مثل الاقتراض المفرط لتمويل العجز في الموازنة العامة. اضافة الى الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية الّذي أدى إلى هدر الموارد العامة وغياب الشفافية في إدارة المال العام.
وتأتي أزمة الدين العام الّتي يعاني منها لبنان وهي واحدة من أعلى نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، حيث تجاوزت نسبة الدين أكثر من ١٧٠٪ من الناتج المحلي قبل الأزمة، وهذا العبء الهائل من الديون أثقل كاهل الاقتصاد وأدى إلى فقدان الثقة بالعملة الوطنية.
ولا ننسى انهيار القطاع المصرفي الّذي كان يُعتبر أحد الركائز الأساسية للاقتصاد، لكنه انهار بسبب السياسات الخاطئة وعدم وجود رقابة فعّالة، حيث هرّبت المصارف ورؤساء مجالس اداراتها أموال مالكيها الى الخارج فيما فرضت البنوك قيودًا صارمة على سحب الأموال(Capital Controls)، مما أدى إلى تجميد ودائع المواطنين واقتطاع بعضها تحت تبريرات أقل ما يُقال عنها أنّها سرقة اموال المودعين بعناوين شتّى في ظل غياب القضاء عن المعالجة الفعّالة والملاحقة القانونية ممّا أدى الى فقدان المواطن للثقة بالنظام المصرفي الّذي ساهم أيضًا بانخفاض تدفقات العملات الأجنبية، لسرقة اموال تحويلات الدولار من الخارج الى لبنان وصرفها على سعر وهمي وضعه حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة الموجود في السجن حايا لاتّهامات بتبييض أموال وسرقة اموال المودعين عن سبق الاصرار بالتافل والتضامن مع القطاع المصرفي اللبناني، بعد أن كان يعتمد لبنان بشكل كبير على التحويلات المالية من المغتربين والسياحة، وكلاهما تراجع بشكل كبير بسبب الأوضاع السياسية والأمنية والأزمات العالمية.
ولا يخفى على أحد أن تأثير الانفجار الكارثي الذي حصل في مرفأ بيروت في آب ٢٠٢٠ أدى إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتية للعاصمة، مما زاد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية.
وفي سياق متّصل تعددت السرقات والنتيجة أوصلت الى تضخم مفرط وانهيار العملة الوطنية حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من ٩٠٪ من قيمتها أمام الدولار الأميركي منذ بداية الأزمة، ممّا أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل جنوني، وزاد من معاناة المواطنين.
كل هذه العوامل أوصلت الى تحديات تواجه الاقتصاد اللبناني، منها اولا الفقر، فالتقديرات تشير إلى أن أكثر من ٨٠٪ من السكان يعيشون الآن تحت خط الفقر، نتيجة لارتفاع تكاليف المعيشة وفقدان الوظائف، في وقت ارتفعت البطالة بشكل كبير، خاصة بين الشباب، مما أدى إلى هجرة كبيرة للعمالة الماهرة.
ثانيا أثّرت الاحداث المتسارعة الى نقص الخدمات الأساسية حيث رزحت البلاد من نقص حاد في الكهرباء والمياه والخدمات الصحية والتعليمية، الامر الّذي انسحب سلبًا على جودة الحياة. فأصبح انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة أمرًا يوميًا، وزاد من تكلفة الحياة اليومية.
ومع غياب الاستقرار السياسي، بسبب تناحر مسؤولي الافرقاء على مختلف انتماءاتهم ومذاهبهم بدت الانقسامات السياسية والصراعات الطائفية تعيق تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، مع غياب حكومة فعّالة غياب حكومة فعّالة ومستقرة عقدت أكثر الجهود الرامية إلى تحقيق التعافي الاقتصادي، في حين كان المطبّلون والمزمّرون من السياسيين لحكومات سعد الحريري وحسّان دياب ونجيب ميقاتي يشوّهون صورة البلد للحفاظ على مناصبهم والاستمرار بطعن الوطن والمواطنين اجتماعيا واقتصاديا وماليا. وهذه الأمور مجتمعة اضافة الى أن المسؤولين الروحيين اشتركوا مع الساسة بالانغماس في لغة الفساد ممّا أفقد لبنان الثقة الدولية، فبات المجتمع الدولي يطالب البلد بتنفيذ إصلاحات هيكلية مقابل تقديم المساعدات المالية. ممّا أدى إلى تجميد الدعم الدولي، وزاد من تعقيد الأزمة.
في هذا الاطار، وبما أن لبنان يعتمد بشكل كبير على استيراد الغذاء والوقود، جعله عرضة لتقلبات الأسعار العالمية. ناهيك عن أنّ الحرب في أوكرانيا أدت إلى ارتفاع أسعار القمح والوقود، ازادادت الضغوط على الاقتصاد اللبناني، وبالتالي على اللبناني، الّذي أصبح رازحًا تحت عبء غباء المسؤولين وغيابهم عن معالجة التحديات الاجتماعية، فأدّت الأزمة إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وارتفعت معدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية. ودفع بالشباب اللبناني للبحث عن فرص خارج البلاد، وادى إلى “هجرة كبيرة للأدمغة”.
مع انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون وتكليف القاضي نوّاف سلام بترؤس الحكومة اللبنانية عوّل اللبنانيون بالامال على وضع الحلول على السكّة السليمة لايجاد المخارج والحلول والبدء بالاصلاحات على الرغم من أن ١٢ وزيرا من حكومة سلام هم من المصرفيين الّذي لا ثقة للبنانيين فيهم والاسباب عديدة ذكرناها في سياق النص.
وبالرغم من كل ما حصل، لابدّ من تنفيذ تنفيذ إصلاحات بنيوية بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة بناء الثقة بالنظام المالي، تحسين إدارة الدين العام ووضع خطط واضحة لسداد الديون.مكافحة الفساد عبر تعزيز الشفافية في المؤسسات الحكومية، وإنشاء هيئة مستقلة لمراقبة الإنفاق العام. تعزيز الإنتاج المحلي وتشجيع الزراعة والصناعة المحلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد. ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لخلق فرص عمل جديدة وليس وضع العصي في الدواليب عبر عصابات السياسيين ومحاربة المفكّرين وصغار التجّار بوضع خوّات غير مباشرة للتفكيك! استعادة الثقة الدولية عبر التعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتأمين الدعم المالي، وتنفيذالإصلاحات المطلوبة لاستعادة ثقة المستثمرين الأجانب.تحسين البنية التحتية من الاستثمار في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل لتحسين جودة الحياة. وإعادة إعمار المناطق المتضررة من الانفجار الّذي حصل في مرفأ بيروت، والامساك بزمام المبادرة لعدم عودة الحروب العبثية من اجل الفلسطينيين او غيرهم في المنطقة، لا سيّما أن ما نشهده من تغيّرات سريعة لا توحي بالهدوء على المدى القريب. تعزيز الحوكمة لا سيّما بعد تشكيل الحكومة على امل ان تكون فعّالة تعمل على تنفيذ الإصلاحات، وتطلق يد القضاء للملاحقة والمحاسبة، اضافة الى تعزيز دور البرلمان في الرقابة على السياسات الاقتصادية، مع أن الامل المعقود على دور المجلس النيابي غير مبشّر، لأنّ الدولة العميقة الفاسدة والمفسدة برجالاتها في لبنان لا تزال تتحكّم بمفاصل هذه الدولة على رجاء أن يحقق رئيس الجمهورية الجديد خرقا ما لانقاذ ما بقي والبناء عليه للعودة بلبنان الى برّ الأمان.
في الخلاصة ان الأزمة الاقتصادية في لبنان ليست مجرد مشكلة موقتة بل هي نتيجة تراكم سنوات من السياسات الخاطئة وسوء الإدارة. لتحقيق التعافي، يحتاج لبنان إلى إرادة سياسية قوية وإصلاحات جذريّة تعيد بناء الاقتصاد الوطني واستعادة الثقة الداخلية والخارجية. ومع ذلك، فإن الطريق إلى التعافي سيكون طويلًا وشاقًا، ويحتاج إلى تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومة، القطاع الخاص، والمجتمع الدولي.
لبنان يقف اليوم عند مفترق طرق، فإما أن يتخذ خطوات جادة نحو الإصلاح والتعافي، أو يستمر في دوامة الانهيار التي قد تكون لها عواقب وخيمة على الشعب اللبناني وعلى المنطقة بأكملها.
ج.س