هذا ليس ترامب الذي انتخبته أميركا

في عام ١٩٦٢، وبعد فترة وجيزة من إنشاء الرئيس جون كينيدي للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وهي الوكالة الفيدرالية المكلفة بإدارة المساعدات الخارجية، استقبل كينيدي أول مديري بعثاتها في البيت الأبيض. وأشار إلى الصعوبات السياسية في الحفاظ على المساعدات الخارجية، لكنه اعتبرها ضرورية لدور أميركا كقائدة للعالم الحر. وقال لهم عن مهامهم القادمة: “لن يكون هناك وداع رسمي عند مغادرتكم، ولا استقبالات احتفالية عند عودتكم”، مؤكدًا أن المكافأة تكمن في العمل ذاته وفي القضية الكبرى التي تخدم الحرية.

تمثل السياسة الخارجية لأي دولة نافذة على وعيها الجماعي. فأميركا التي أنشأت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية كانت ترى نفسها مدافعة عن الحرية، داعمة للمؤسسات الدولية، ومشاركة في كسب عقول وقلوب الشعوب حول العالم—وهو جهد يتماشى مع حركة الحقوق المدنية داخل البلاد. أما أميركا التي تقوم بتفكيك الوكالة اليوم، فتعكس رؤية مختلفة تمامًا لدورها في العالم: تهديد الدول الصغيرة بالغزو، الانسحاب من المؤسسات الدولية، والترويج لفكرة التطهير العرقي في غزة—وهو نهج يتماشى مع عمليات الترحيل الجماعي ومحو برامج التنوع داخل الولايات المتحدة. إنها أمة تنكمش في حجمها وإدراكها الذاتي.

خاض الرئيس دونالد ترامب حملته الانتخابية بناءً على وعود بإعادة تشكيل مكانة أميركا في العالم. فبعد الحروب الطويلة في العراق وأفغانستان، تعهد بكبح جماح النخب الأمنية الوطنية التي لم تتعلم من “حروب بلا نهاية”. وبعد عقود من الشكاوى بأن الشركاء التجاريين يستفيدون من العولمة أكثر من الولايات المتحدة، وعد باستخدام أدوات قديمة مثل التعريفات الجمركية للحصول على صفقات أفضل. وبعد مقاومة بعض موظفي الدولة لأجندته في ولايته الأولى، سعى إلى إحلالهم بولاء يخدمه وحركته. في عالم مضطرب يهيمن عليه زعماء أقوياء يعقدون صفقات حسب المصالح، وعد الأميركيين بأن يكون لديهم زعيم خاص بهم.

كثير من الأميركيين، بمن فيهم أنا، يدعمون إصلاح النهج الأمني القومي المتحجر الذي يحكم سياساتنا منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١. ومع ذلك، من الخطأ اعتبار قرارات ترامب المتقلبة وإجراءاته التنفيذية في السياسة الخارجية مجرد تنفيذ لوعوده الانتخابية. فلم يترشح على أساس تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أو غزو غرينلاند، أو احتلال غزة. بل إن سياسته الخارجية تعكس فقدان الثقة بالنفس والاحترام الذاتي لأميركا، متخليًا عن أي ادعاء بأنها لا تزال تدافع عن القيم التي ادعت تمثيلها منذ الحربين العالميتين: الحرية، وتقرير المصير، والأمن الجماعي.

في الواقع، ترامب أقرب إلى صورة تاريخية أكثر شيوعًا: زعيم مسنّ يتحدث عن التوسع الإقليمي لتعزيز سلطته وتأمين إرثه. في أحسن الأحوال، قد تؤدي هذه السياسة إلى تشكيل نظام دولي جديد يتشكل كرد فعل على تجاوزات أميركا؛ وفي أسوأ الأحوال، قد تسرّع من الفوضى العالمية وصراعات القوى الكبرى.

أميركا تتجه نحو العزلة

خلال الأسابيع القليلة الماضية، شهد العالم ما لم يحدث من قبل. فقد أصبح ترامب أول رئيس في حياتي يتولى منصبه وهو يتعهد بـ”توسيع أراضينا”. فقد أصر على أن تستعيد الولايات المتحدة قناة بنما وتستولي على غرينلاند، رغم الاعتراضات المتكررة من حكومات وشعوب تلك الدول. قد يكون هذا مجرد استعراض تفاوضي للحصول على امتيازات، مثل خفض رسوم عبور السفن الأميركية في قناة بنما أو الوصول إلى موارد وقواعد عسكرية في غرينلاند. ولكن هناك احتمالًا أيضًا بأن ترامب يعني ما يقوله بشأن التوسع الإقليمي.

على أي حال، فإن استهداف ترامب لدول صغيرة لا يعكس قوة حقيقية. التهجم على بنما وغرينلاند أو التهديد بحروب تجارية مع كندا والمكسيك يبدو كتصرف متنمر يبحث عن ضحايا أضعف. وبينما قد تحقق هذه النزاعات مكاسب سياسية سريعة، فإن العالم لا يسير وفق إيقاع دورات الأخبار الأميركية أو الواقع البديل لقنوات “فوكس نيوز” و”OANN”. بل ينظر إلينا ويرى رئيسًا يتجاهل سيادة الدول، وهو مبدأ أساسي للاستقرار العالمي منذ الحربين العالميتين—ويفعل ذلك في وقت يسعى فيه فلاديمير بوتين لابتلاع أجزاء من أوكرانيا، ويتمسك شي جين بينغ بضم تايوان، ويدفع بعض السياسيين الإسرائيليين لضم غزة والضفة الغربية تحت ذريعة الأمن القومي. فإذا كانت الولايات المتحدة نفسها تنتهك القواعد، فلماذا سيلتزم بها الآخرون؟

لذلك، عندما يقترح ترامب أن تستولي الولايات المتحدة على غزة وتحولها إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، فإن الأمر يثير الذهول. وكثير من اقتراحات ترامب لا تتحقق (مما يدل على قلة النفوذ بدلًا من القوة)، لكنه يعزز فكرة أن على مليوني فلسطيني في غزة مغادرة أرضهم، متجاهلًا أن الدول العربية المجاورة مثل مصر والأردن ستتزعزع استقرارها إذا تواطأت في تطهير عرقي. كما أنه يرسّخ رؤية للسياسة الخارجية تتعامل مع الدول والشعوب الأضعف على أنها بلا حق في تقرير مصيرها. استغل بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، هذه المستجدات قائلًا: “الآن، سنعمل على دفن فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا”.

أميركا تفقد أدوات نفوذها

لو كان ترامب معنيًا حقًا بمصير أهالي غزة، لما كان يدمر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الجهة المسؤولة عن مساعدتهم على إعادة البناء. فقد أدى تجميد المساعدات الخارجية عالميًا وتعليق جزء كبير من عمل الوكالة إلى شل قدرتها على دعم وقف إطلاق النار الهش في غزة بالمساعدات الإنسانية، ناهيك عن المهام الأكثر صعوبة مثل إزالة الأنقاض، ونزع القنابل غير المنفجرة، وتوفير المأوى لمئات الآلاف من المدنيين الذين فقدوا منازلهم.

وعلى عكس خطابه عن غزة وغرينلاند، فإن تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية—الذي يتم بإشراف إيلون ماسك—ليس مجرد تصريح، بل حقيقة جارية. وتترتب على ذلك عواقب ملموسة، ليس فقط لمن يعتمدون على الوكالة حول العالم، ولكن أيضًا للأميركيين الذين يتوقعون من حكومتهم منع انتشار الإرهاب، والأمراض، ونفوذ الحزب الشيوعي الصيني عالميًا. وبدون تمويل الوكالة، وتحت وطأة التعريفات الجمركية، قد تجد دول، بما في ذلك حلفاء أميركا، نفسها مضطرة للجوء إلى الصين كمصدر أكثر استقرارًا للتجارة والاستثمار.

يعكس هذا الوضع كيف يتجاوز تأثير القوة الأميركية حدودها. فعندما يتمكن أغنى رجل في العالم بسهولة من تقويض مكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي، فإن هذا ليس إلا نذيرًا لانحدار قوى عظمى أصبحت هشة إلى حد أن مصادر نفوذها يمكن تفكيكها من الداخل.

بقلم بن رودس
السيد رودس كاتب رأي مساهم. شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس باراك أوباما.

ترجمة هيئة التحرير في كليك أف أم

زر الذهاب إلى الأعلى