
في كلّ مرة نسمع فيها عن كوريا الشماليّة، نفكّر في الصواريخ والاستعراضات العسكريّة والحدود المغلقة. لكنّ خلف هذا المشهد الحديدي، توجد صناعة صغيرة تحاول أن تُثبت أنّ البلاد قادرة على الاكتفاء الذاتي: صناعة السيارات. غير أنّ هذه المحاولة التي بدأت قبل أكثر من ستّين عامًا تحوّلت إلى مثالٍ واضح على كيف يمكن للعزلة السياسيّة أن تقتل أيّ ابتكار.
بدأت الحكاية عام ١٩٥٨، حين خرجت من مصنع “سونغري” أوّل شاحنة محلّية الصنع سُمّيت “سونغري ٥٨”. كانت لحظة رمزيّة في بلدٍ خرج للتوّ من الحرب الكوريّة، ورأى في التصنيع وسيلةً للاستقلال عن العالم الخارجي. غير أنّ الطموح سرعان ما اصطدم بالواقع: نقص في الموارد، وغياب في التكنولوجيا، واقتصاد موجَّه بالكامل نحو الجيش. تحوّل المصنع تدريجيًا إلى منتجٍ للشاحنات العسكريّة فقط، فيما بقيت السيارات المدنيّة مجرّد محاولات محدودة لا تختلف كثيرًا عن نسخٍ مكرّرة من طرازات أجنبيّة قديمة.
لم تكن المشكلة في المهارة التقنيّة بقدر ما كانت في العقلية السياسيّة. فالنظام الذي أراد أن يبرهن أنّه يستطيع صنع كلّ شيء بنفسه، رفض الانفتاح على الشركاء الخارجيين، فبقيت الصناعة تدور في حلقة مغلقة. ومع غياب المنافسة أو التعاون الدولي، لم يكن هناك ما يدفع المصمّمين إلى التجديد. هكذا ظلّت السيارات الكوريّة الشماليّة تبدو وكأنّها خرجت من خمسينيّات القرن الماضي، حتى بعد مرور عقود.
في بداية الألفيّة، بدا أنّ الأمور قد تتغيّر. فقد أُعلن عام ٢٠٠٠ عن تأسيس شركة “بيونغ هوا موتورز”، وهي مشروع مشترك بين الكوريتين بمساعدة من شركات أجنبيّة مثل “فيات” و“برليانس” الصينيّة. رُوّج لها بوصفها بداية عصرٍ جديد يمكن أن يوحّد الشمال والجنوب عبر الاقتصاد. لكنّ السياسة فعلت ما تفعله دائمًا: التوتّرات تصاعدت، والتعاون توقّف، وتحولت الشركة بحلول عام ٢٠١٣ إلى ملكيّة حكوميّة صامتة لا تُعرف عنها أيّ بيانات إنتاج أو مبيعات.
منذ ذلك الحين، أصبحت “بيونغ هوا” مثالًا حيًا على صناعةٍ فقدت معناها. فمعظم سياراتها ليست سوى نسخ من طرازات صينيّة، وهذه الأخيرة مقلّدة بدورها من سيارات أميركيّة وأوروبيّة. دورة من النقل والتكرار بلا ابتكار حقيقي. حتى أسلوب التصنيع نفسه يُظهر حجم الفجوة: فبحسب شهادات منشقّين، يقوم المهندسون هناك بتفكيك سيارة أجنبيّة قطعةً قطعة، ثم يرسمون مكوّناتها يدويًا لإعادة إنتاجها، وهي عمليّة تُعرف باسم “الرسم التشريحي”. النتيجة سيارات تشبه من بعيد طراز “فولكس فاغن جيتا”، لكنّها عند الاقتراب تكشف عن فجوات في الأبواب وضعف في الجودة وسوء في التشطيب، كأنّها ظلّ باهت لسيارة حقيقيّة.
ورغم كلّ هذا الجهد لتأكيد “القدرة الوطنيّة”، يبدو أنّ القادة أنفسهم لا يؤمنون بها. فالزعيم كيم جونغ أون يتنقّل في سيارات “مرسيدس” مصفّحة، والوزراء يفضّلون “تويوتا” و“لكزس”، فيما لا تُرى السيارات المحليّة إلا في المواكب العسكريّة أو مع موظّفي الدولة الصغار. التناقض صارخ: دولةٌ ترفع شعار الاكتفاء الذاتي، لكنّ رموزها تركب منتجات الخارج.
في شوارع بيونغ يانغ الهادئة يمكن رؤية سيارات “فولغا” الروسيّة القديمة التي تعود إلى خمسينيّات القرن الماضي. بالنسبة إلى كثيرين هناك، هذه السيارة ليست مجرّد وسيلة نقل، بل رمزٌ لعصرٍ كان أكثر انفتاحًا، حين كانت البلاد تتعامل مع حلفائها في موسكو ووارسو قبل أن تنغلق تمامًا خلف أسوارها. المفارقة أنّ الماضي يبدو أحيانًا أكثر حداثة من الحاضر.
تجربة كوريا الشماليّة في صناعة السيارات تلخّص علاقتها بالعالم: رغبة في الظهور، خوف من الانفتاح، وإصرار على صنع نسخة من كلّ شيء بدل أن تُبدع شيئًا جديدًا. فالدولة التي منعت المنافسة بحجّة الحماية فقدت القدرة على التقدّم، وأصبح مصنعها يشبه نظامها: يعمل بصمت، لا أحد يعرف ما ينتجه، ولا أحد يجرؤ على سؤاله لماذا لا يتغيّر.
بعد أكثر من سبعين عامًا على انطلاق “سونغري ٥٨”، لا تزال السيارات الكوريّة الشماليّة تدور في مكانها، مثل محركٍ يعمل من دون أن يتحرّك. عجلاتها تدور داخل حدودٍ مغلقة، والطريق إلى العالم لا يزال مسدودًا. ما يُنتج في بيونغ يانغ يبقى في بيونغ يانغ، تمامًا كما تبقى البلاد نفسها معزولة عن المستقبل.
تحليل خاص – إعداد قسم الشؤون الدوليّة في كليك اف ام

