ماذا لو أُعيد بشار الأسد إلى حكم سوريا من جديد؟

إن دراسة احتمالية عودة رئيس النظام السوري السابق، بشار الأسد، إلى سدة الحكم في دمشق بعد الإطاحة به، لا تنطلق من تحليل للأمنيات السّياسية بقدر ما تنبع من تقييم منهجي لمخاطر “الارتداد السياسي” (Political Regression) في الدول التي مزّقتها الصراعات بالوكالة. ففي بيئات ما بعد النزاع حيث تتعدد مراكز القوى الداخلية وتتضارب الأجندات الخارجية، تظل جيوب “المقاومة” المرتبطة بالنظام القديم -مدعومة بقوى إقليمية ودولية- قادرة على استغلال أي فراغ أو ضعف أو إخفاق في السلطة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع (ابو محمد الجولاني). يهدف هذا التقرير إلى تقييم المخاطر الاستراتيجية لارتداد الأنظمة، وما إذا كان تكرار الديكتاتورية يضمن الاستقرار الموقت، أم أنه يغرق الدولة في دوامة أعمق من العنف والتبعية!.

إزاحة الشاه

لفهم سيناريو العودة المحتمل في سوريا، يستدعي التحليل نموذجاً تاريخياً مؤثراً هو حالة الشاه محمد رضا بهلوي في إيران. لقد أُطيح به لأول مرة ليتم خلعه ونفيه، غير أنه أُعيد إلى السلطة في عام 1953 عبر انقلاب عسكري دبّرته الاستخبارات الأميركية والبريطانية مستهدفًا رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً، الزعيم الإيراني الدكتور محمد مصدق، الذي حاول تأميم النفط الإيراني لصالح شعبه.

عند عودته، حكم الشاه بقبضة حديدية مدعومة بجهاز الأمن السرّي (السافاك)، الذي درّبه الغرب. وحوّل الشاه إلى “شرطي متغطرس ومستفز” في المنطقة، يهدف إلى حماية المصالح الغربية ضد أي تيارات عربية أو إسلامية معادية. ومع ذلك، لم تدم عودته؛ فثورة 1979 الوطنية كانت نتيجة طبيعية لفساد وظلم نظامه المدعوم من الغرب.

تطبيق هذا النموذج على الحالة السورية يقود إلى استنتاج مفاده أن عودة الأسد، إذا حدثت، لن تكون نتيجة لقوّة ذاتية أو شعبية، بل ستكون بمثابة انقلاب جيوسياسي أو عسكري مدعوم من قوّة عظمى (روسيا أو تحالف إقليمي جديد) ضد نظام الشرع. الهدف الرئيسي خلف هذه العودة سيكون إعادة تعريف الدور السوري لخدمة المصالح الأجنبية-سواء كان ذلك لتأمين الحدود الإقليميّة، أو لضمان السيطرة على خطوط الطاقة، أو لزيادة إضعاف المحور الإيراني في المنطقة.

إن العودة المحتملة للأسد تعني بالضرورة التبعيّة الكاملة. لن يعود كديكتاتور مستقل يتمتع بالسيادة، بل كأداة قمع “مُعاد تدويرها” لصالح القوى التي تضمن بقاءه، سواء كانت هذه القوى روسيا وإيران مجدداً أو تحالفات جديدة. هذا يفسر لماذا قد يكون مستعدًا للتخلي عن شعار “الممانعة”؛ إنه يبيع الولاء الجيوسياسي مقابل العرش. وعليه، فإن سلسلة الأسباب والنتائج تشير إلى أن (حاجة الأسد للبقاء) مضافة إليها (ضعف الدولة السورية) ستؤدّي إلى (قبول شروط الداعمين الجدد) ومن ثم إلى (تحول جذري في الأجندة الخارجية للنظام)، ليصبح نظامه الجديد أكثر تبعيّة من سابقه.

 

جور الأسد وتطرّف الشرع

إن المقارنة بين نظام بشار الأسد المخلوع ونظام أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الحالي لا تهدف إلى تبرير طرف على حساب آخر، بل تهدف إلى الكشف عن التحدّي المزمن الذي يواجه الدولة السورية وهو استمرار الاستبداد والقمع تحت لافتات مختلفة، سواء كانت قومية علمانية أو إسلامية براغماتية.

كان نظام الأسد قبل الإطاحة به نموذجًا للاستبداد الأمني المنهجي،وبقي يمارس الاعتقال التعسفي والاحتجاز لفترات طويلة أو لأجل غير مسمى، حيث تشير التقارير إلى أنّ خطر الاعتقال والتعذيب ظل “منتشرًا بالنسبة للعديد من السوريين”. كما كان يسمح القانون باعتقال المشتبه فيهم لمدة تصل إلى 60 يومًا دون توجيه تهم، لا سيما في قضايا “الإرهاب”.

على الصعيد الاقتصادي، شهد النظام تحولاً من سياسات اشتراكية وسوق اجتماعي إلى “الرأسمالية غير المخططة”. وهذا التحول عزز من سيطرة النخبة الأمنيّة والماليّة الموالية على اقتصاد الظلّ، مما أدّى إلى تفاقم الفساد واستفادة شريحة ضيّقة من الشبكات الريعيّة، الأمر الذي كان أحد الأسباب الجذريّة للثورة.

أما عن السياسة الخارجية، فعلى الرغم من تبنّي الأسد عقيدة الممانعة، إلا أنّه أكّد استعداده في عام 2009 لاستئناف مباحثات السلام المباشرة مع إسرائيل على أساس معادلة “الأرض مقابل السلام” والانسحاب الكامل من الجولان.وهذه التصريحات دلّت على أنّ الممانعة كانت في الأساس تكتيكيّة ومشروطة بأهداف سياسية، وليست عقيدة ثابتة.

 

حكم الشرع… الديني

يمثل حكم أحمد الشرع (الجولاني الذي أصبح رئيسًا للجمهورية العربية السورية منذ كانون الثاني 2025) تحولًا أيديولوجيًا معقدًا. فقد انضم في البداية إلى تنظيم القاعدة في العراق عام 2003، لكنه قاوم لاحقًا محاولات أبو بكر البغدادي لدمج جبهة النصرة في تنظيم “داعش” الارهابي. ثم أعلن حلّ جبهة فتح الشام واندماجها في “هيئة تحرير الشام” الارهابية، معطيًا الأولوية لمحاربة القاعدة وداعش في محاولة لتحسين مكانته مع الدول الغربيّة.

تتمثل فلسفة الشرع للحكم في نموذج “وسطي” بين النماذج الأيديولوجية المتطرفة (الإخواني)، حيث يطمح أن يكون “مرشدًا للجماعة الحاكمة”، مما يعني أنه يحتفظ بالمنصب المرجعي الأعلى المسؤول عن صناعة السياسات، بينما يضع رئيسًا للدولة. وهذا الأسلوب يعكس رغبته في أن يكون أعلى من الدستور والنظام السياسي القائم، على غرار شخصيّات متطرّفة معروفة.

على صعيد حقوق الإنسان، وفي أعقاب الإطاحة بالأسد، قامت جماعات المعارضة بإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين من مرافق الاحتجاز التابعة للنظام السابق. وقد وثقت مقاطع مصورة لقاءات مؤثرة بين أبناء وعائلات فُرقت لسنوات، في إشارة إلى فتح أبواب السجون. ومع ذلك، تشير تقارير منظمات حقوق الإنسان (مثل منظمة العفو الدولية) إلى أن آلاف الأشخاص ظلوا محتجزين تعسفًّا أو مختفين قسراً في مناطق مختلفة، بما في ذلك المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، وظل الوضع الإنساني بائسًا.

إن التحدّي الأكبر الذي يواجه الشرع هو “الحرب” بين شخصيّة الارهابي الثوري (الجولاني) وشخصية الرئيس المعتدل (الشرع). محاولا دمج شخصيّتين بواحدة، لذلك فانّ العودة المحتملة للأسد ستستغل هذا التناقض الداخلي لتصوير الشرع على أنه لا يستطيع التغلب على جذوره الإرهابيّة.

 

أما المقارنة بين النظامين تكشف عن أن المشكلة الأساس في سوريا هي ضعف مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية كبديل حقيقي، مما يحصر الشعب بين مطرقة دكتاتورية موروثة وسندان حكم ديني مرتدٍ عباءة المدنيّة. حيث يبقى الاستبداد ثابتًا سوريًا بغض النظر عن الأيديولوجيا، فتتغير الواجهة الأيديولوجية لكن آلية القمع والحكم الفردي تستمر.

مقارنة محاور الحكم والظلم: بشار الأسد (السابق/المحتمل) مقابل أحمد الشرع (الحالي)

المحور نظام بشار الأسد (السابق) نظام أحمد الشرع (الحالي-السلطة الانتقالية) الاستنتاج الاستراتيجي
المرجعية الأيديولوجية علمانية إسمية، حكم أمني، استغلال شعار “الممانعة”. إسلامي (بمرجعية عليا غير منتخبة)، محاولة التحول إلى نموذج تركي/وسطي. تحول من استبداد الأسرة إلى استبداد المرجعية؛ الثابت هو غياب المواطنة الحقيقية.
آلية القمع القمع المنهجي (تعذيب، اعتقال تعسفي) مدعوم بقوانين “الإرهاب”. قيود على الحريات العامة، استمرار احتجاز تعسفي في مناطق المعارضة. القمع يبقى أداة الحكم الرئيسية، لكن تتغير الواجهة القانونية.
الموقف من إسرائيل الممانعة المشروطة بالاستعداد للتفاوض (الأرض مقابل السلام).6 مفاوضات غير مباشرة لوقف الاعتداءات، واستغلال إسرائيل للفراغ الأمني. النظامان مستعدان للتخلي عن الممانعة إذا كان الثمن هو البقاء السياسي.
الهيكل الاقتصادي رأسمالية غير مخططة، اقتصاد ظل، دعم روسي-إيراني. حاجة لإعادة الإعمار والاعتماد على الاستثمار الأجنبي المشروط. العودة للفساد تحت الأسد أو الاعتماد على التمويل الخارجي المشروط تحت الشرع.

إن الإطاحة بنظام الشرع وإعادة الأسد تتطلب توافر ظروف داخلية مدمّرة ودعم خارجي حاسم. كما وجب أولاً تحليل العلاقة المعقّدة بين الخصمين.

من المفارقات التاريخية أن صعود أحمد الشرع كان نتاجاً مباشراً لخطأ استراتيجي ارتكبه نظام الأسد. لقد اطمأن الرئيس المخلوعسابقًا إلى خطة أمنية سمحت بدفع الشباب المعارض لوجوده في العراق، حتى لو كانوا مطلوبين أمنيًا، بهدف تصعيد الضغط على القوات الأميركية وإشغال واشنطن بالملف العراقي، مما يهدّئ الضغوط على النظام في دمشق. وفي الوقت ذاته، كان الأسد يضمن التخلص من مجموعات الشباب المطالبين بتغيير النظام السوري.

كان أحمد الشرع من بين هؤلاء الشباب. وبدلاً من أن يتم التخلص منه، تشرب ذلك الشاب “أسرار السياسة والحكم والمجموعات الخارجة عن القانون” وعاد من العراق لاحقًا لتشكيل مجموعات أشد قوة. وانفصل عن تلك التي تؤمن بالعمليات الخارجة عن القانون وأسس آليته للحكم في إدلب. أدرك الأسد أن خطته فشلت وعادت عليه بالخطر، لكن ذلك كان بعد فوات الأوان. وبالتالي، إذا عاد الرئيس المخلوع، سيعلم أن الجولاني ليس مجرد “جهادي سابق”، بل قائد عسكري وسياسي نشأ من رحم أخطائه الأمنية ذاتها، مما يجعل أي صراع مستقبلي بينهما شخصيًا وأكثر ضراوة، لا سيّما أن الشرع هو بيدق لا اكثر ولا أقلّ والعوبة في يد الدولة الراعية له.

تعتمد احتمالية عودة الأسد على مدى فشل نظام الشرع في تحقيق الاستقرار والاعتراف الدولي:

  1. التمرد العلوي المضاد والفوضى الأمنيّة إذ يمثل ذهاب ضباط وقادة علويين متبقين من النظام السابق لإطلاق تمرد واسع ضد السلطة الانتقالية تحديًا كبيرًا. والهدف ليس بالضرورة إعادة الأسد بشكل فوري، بل عرقلة تقدم الشرع وتعظيم التحديات الأمنية والسياسية أمامه، وقد حدث بالفعل هجوم مضاد أدى إلى مقتل عناصر من فصائل إسلاميّة في اللاذقية. ويمكن لقوى خارجية كبرى أن تستغل هذا التمرد تحت واجهة “حفظ مصالح الأقليات” لزعزعة السلطة الجديدة وخلق فراغ يعيد الأسد.
  2. الانهيار الاقتصادي وغياب التمويل: تحتاج السلطة الانتقالية إلى تدفق الاستثمارات والأموال الأوروبية والعربية لإعادة الإعمار والاستثمار. وفشل الشرع في تحقيق الاستقرار اللازم وجذب هذا التمويل قد يجعله يفقد الدعم الدولي والإقليمي. وإذا استمر الفقر والتدهور، قد تفضل القوى الدولية، الساعية للاستقرار بأيّ ثمن، العودة إلى نظام “معروف” (الأسد) لضمان مصالحها الاقتصاديّة والعسكريّة.
  3. التدخل الخارجي الحاسم والتحالفات الجديدة: إنّ احتمالية عودة الأسد تزداد فقط إذا كانت هذه العودة تخدم مصالح إقليميّة ودوليّة جديدة. يمكن أن يحدث تدخل عسكري أو أمني مباشر، على غرار انقلاب 1953 في إيران، يتم فيه إزاحة الشرع في حال شعرت القوى الكبرى بخطر فقدان كامل نفوذها. ويمكن أن يتم ذلك بتفاهم ضمني يهدف إلى عزل إيران بعد سقوط الأسد، أو العكس (إيران وروسيا تعيدانه لتعميق نفوذهما). وفي الحالتين، الشرط هو أن يقبل الأسد بـ”عقد” جيوسياسي جديد يختلف عن عقيدة الممانعة القديمة، ويعود كـ”قائد ضرورة” موقت.

 

صياغة الداخل السوري

في حال تحقق سيناريو العودة، فإن السؤال الاستراتيجي هو: هل سيعود بشار الأسد بعقلية منفتحة تسمح بالتحول الديمقراطي، أم سيعيد تأسيس حكمه على أسس أكثر قمعًا؟.

في هذا السياق وحسب المعطيات المتوفّرة ّمن غير المرجح على الإطلاق أن يحكم الأسد بعقلية “منفتحة” أو ديمقراطية بعد كل ما مرّت به بلاده. فالارتداد السياسي يعني عودة أساليب الحكم التي أثبتت فعاليتها بالنسبة للنظام: القمع الأمني، وتوزيع المنافع على القواعد الأمنية والعسكرية الضيقة. حيث يمثّل الارتداد إلى الديكتاتورية في جوهره تجميدًا للنزاع عبر القمع الشديد، وليس بناء سلام اجتماعي حقيقي.

قد يتبنى النظام العائد واجهة “مدنيّة” أو “ليبراليّة” شكليّة كتنظيم انتخابات صوريّة أو إطلاق سراح بعض المعتقلين غير المهمّين، وذلك لتلبية شروط المجتمع الدولي والحصول على تمويل إعادة الإعمار. ومع ذلك، سيظل الهيكل الأمني العميق (الدولة العميقة) هو المتحكّم الفعلي، كما كان قبل عام 2011. وستبقى المشاكلالهيكلية (الفساد، توزيع السلطة، النزاعات على الموارد) كامنة، مما يضمن أن الارتداد لا يحل الأزمة بل يؤدي إلى ثورات جديدة أو تفكك بطيء للدولة في المستقبل.

الأسد العائد سيكون نظامًا مفلسًا ومثقلًا بالديون والتبعيّة. سيعتمد بشكل كبير على القوى التي أعادته لتأمين الاستثمار (روسيا، الصين، وربما دول خليجية تسعى لإعادة العلاقات). وستبقى سياسته الاقتصادية متجهة نحو “الرأسمالية غير المخطّطة” التي تخلق اقتصاد ظل ضخماً. هذا يعني إعادة توزيع عقود الإعمار لصالح المقرّبين من النظام وشبكاته الأمنيّة والعسكرية، مما يؤدّي إلى تفاقم الفساد المزمن.

هذا الاعتماد على التمويل الخارجي المشروط والفساد الداخلي يضمن الفشل الاقتصادي المزمن، مما يغذي تجدد التمرد الشعبي أو الإقليمي ضد النظام العائد في دورات متكررة.

السيناريو التخيّلي الّذي نحن بصدد كتابته في هذا التقرير عن العودة المحتملة لبشّار الأسد يخضعلإمكانية أن يتحول، رمز محور الممانعة، إلى صانع سلام كامل مع إسرائيل، ويدير ظهره لحلفائه القدامى كإيران وحزب الله.

فالأسد العائد سيكون في أضعف حالاته السياسية والاقتصادية. وحاجته الماسة لرفع العقوبات والاعتراف الدولي تجعله قابلاً لصفقة “سلام قسري” تُفرض عليه كجزء من عقده الجيوسياسي الجديد. لقد أظهر الأسد استعداداً مبدئياً للتفاوض سابقاً، وما قاله في عام 2009 يؤكّد أنّ بلاده قد تستأنف مباحثات السلام المباشرة مع إسرائيل من حيث توقفت، على أساس معادلة “الأرض مقابل السلام” والانسحاب الكامل من الجولان.

إذا عاد الأسد، فإن التحليل يشير إلى أن التحول نحو السلام لن يكون اختيارًا سياديًا، بل تلبية لـ”عقد عمل” يجعله مسؤولاً عن أمن الحدود مع إسرائيل مقابل استمراريته. وهذا يعني أن سوريا تتحول من دولة ممانعة إلى دولة “تطبيع إجباري” تحت ضغط الإفلاس. وإذا كان نظام الشرع الحالي قد أجرى بالفعل مفاوضات غير مباشرة لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، فإنّ الأسد العائد قد يذهب أبعد من ذلك لإثبات أنه “شريك أمني أكثر موثوقيّة” في مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود الإسرائيليّة، متخليًا عن عقيدة الممانعة بالكامل.

ويتمثل التحدي الأكبر في أنّ أي سلام لن يكون مبنيًا على الشروط السوريّة القديمة (الانسحاب الكامل من الجولان). فبعد سقوط الأسد، استغلت إسرائيل الوضع لاحتلال المنطقة العازلة و”جبل الشيخ” الاستراتيجي، وأعلنت انهيار اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974.

الأسد العائد قد يضطر لقبول سلام جزئي أو تطبيع جزئي دون استعادة كامل الجولان، مقابل ضمان أمني إسرائيلي يمنع سقوط نظامه مرة أخرى. وهذا التنازل سيكون ثمنًا باهظًا للبقاء السياسي، وسيحوّل سوريا إلى جدار أمني لإسرائيل، بدلاً من رأس حربة للمقاومة.

تداعيات محور إيران

ولكي يكون الأسد “رأس حربة للسلام”، يجب عليه أن يفكك فعليًا وجود الميليشيّات الإيرانية وحزب الله من الأراضي السوريّة. مما يضعه في تناقض حاد، لأنّ روسيا، التي قد تعيده، لا تزال تعمل بشكل وثيق مع إيران في سوريا. لكن إذا كانت عودته تخدم مصالح إقليميّة واسعة تهدف إلى احتواء النفوذ الإيراني، فسيضطر الأسد لتنفيذ “تطهير تدريجي” لقوات حلفائه السابقين لإرضاء شركائه الجدد (الخليج، والقوى الغربية).

أما السؤال الأكثر أهمية هو ما إذا كان الأسد العائد سيعيد توحيد الدولة السورية، أم أنه سيقنّن تقسيمها وتفككها.

فسوريا ما بعد 2024 هي بلد متعدد الفاعلين المحليين. وعودته كدكتاتور مركزي سيعني محاولة إعادة بسط السيطرة الأمنية الشاملة بالقوّة، وهذا سيواجه مقاومة عنيفة من المناطق ذات الاثنية الطائفيّة السنية والكردية والدرزية. وهذا السيناريو الأكثر تقليديّة فالتوحيد القسري سيعني حتمًا تجدد الحرب الأهليّة الشاملة، وزيادة الدعم الخارجي للأقاليم المتمردة (تركيا للأكراد والسنة، وإسرائيل للدروز).

إن عودة الأسد، التي تمثل الاستبداد، لن تعيد سوريا الموحدة، بل ستكون بمثابة رصاصة الرحمة للدولة الوطنيّة التي نعرفها. إعادته ستشرعن التمرد الطائفي والعرقي المقابل، مما يدفع الأقاليم للبحث عن الحماية الذاتية والدعم الخارجي، ويحقق سيناريو التفكك الجغرافي والأمني.

النموذج الأكثر ترجيحًا هو نموذج “الكونفدرالية الأمنية”، الذي يفترض ذهاب نظام الحكم نحو “تقسيم على أسس جغرافية أمنية وطائفية وإثنية”. في هذا السيناريو:

  1. الأسد العائد يعمل كواجهة في دمشق والمناطق الموالية.
  2. يتم تقنين الانقسام الجغرافي والطائفي بدعم من القوى الخارجية التي تسيطر على مناطق النفوذ: الولايات المتحدة تدعم الإدارة الذاتية للأكراد، وتركيا تدعم المناطق الشمالية، بينما تدعم روسيا بقايا النظام.
  3. يتم تثبيت خطوط التماس الأمنية بين مناطق النفوذ، مما يحول سوريا إلى مجموعة من الدويلات المتناحرة فعليًا، وتصبح مهمّة حكم دولة موحدة بالكامل وبشكل قسري مستحيلة على الأسد.

وسيعمل على تأجيج الخوف الطائفي بين الأقليات غير الموالية له وبين الأغلبية، لضمان أن تبقى قاعدته الضيقة هي الخيار “الأقل سوءًا” في نظر بعض الداعمين الخارجيين. وهذا الانقسام يضمن نهاية الهوية الوطنية السورية الجامعة.

سيناريوهات مستقبل الهيكلية السورية في حال عودة الأسد

السيناريو الهيكلي آلية التحقق (دور الأسد العائد) الاحتمالية في ظل العودة المخاطر الرئيسية
التوحيد القسري (النموذج المركزي) محاولة إعادة بسط السيطرة الأمنية الشاملة على كامل الجغرافيا السورية بدعم روسي/إيراني. ضعيفة جداً تجدد الحرب الأهلية الشاملة، تكاليف عسكرية باهظة، عزلة دولية كاملة.
الدولة الفيدرالية المحدودة القبول المحدود بحكم ذاتي واسع (خاصة للأكراد) لضمان عدم الانفصال التام، مع سيطرة دمشق على القضايا السيادية. متوسطة-مشروطة استمرار النزاعات على الحدود والموارد، فدرالية تخدم مصالح القوى الخارجية التي تحمي الأقاليم.
الكونفدرالية الأمنية (التفكك الفعلي) الأسد كواجهة في دمشق، بينما يتم تقنين الانقسام الجغرافي والطائفي بدعم من القوى الخارجية (روسيا، أميركا، تركيا). عالية تقنين التفتت الطائفي والعرقي، تحول سوريا إلى مجموعة دويلات متناحرة، نهاية الهوية الوطنية.

 

الخلاصة الاستراتيجية

إن سيناريو عودة بشار الأسد إلى حكم سوريا من جديد هو سيناريو للارتداد السياسي الملعون، مبني على سوابق تاريخية كعودة الشاه محمد رضا بهلوي في إيران. مثل هذه العودة لا تعكس قوة ذاتية للنظام، بل هي آلية تفرضها القوى العظمى لضمان مصالحها في المنطقة، واستغلال حالة الضعف في السلطة الانتقالية الحالية بقيادة أحمد الشرع.

وتؤكد المقارنة بين جور الأسد القديم وتطرّف الشرع المتحوّل أن سوريا تعاني من ثابت الاستبداد، بغض النظر عن الأيديولوجيا الحاكمة. ففي حال عودته، سيحكم الأسد بعقلية البقاء، مما يتطلب منه التخلي عن عقيدة الممانعة والتحول إلى “شريك أمني” مع إسرائيل في عملية “تطبيع إجباري”، وذلك لضمان الحصول على الدعم الخارجي ورفع العقوبات.

الخطر الهيكلي الأكبر يكمن في أنّ عودة الأسد ستسرّع من سيناريو الكونفدرالية الأمنية، حيث تتفكك الدولة فعليًا إلى مناطق نفوذ طائفية وعرقية مدعومة خارجيًا، بدلاً من تحقيق التوحيد.

توصيات استشرافية لصانعي القرار:

  1. رفض الارتدادات السياسية: يجب على القوى الدولية والإقليمية تجنب دعم الارتدادات السياسية، سواء كانت عودة ديكتاتور قديم أو تثبيت سلطة أيديولوجية قمعية، لأن ذلك يضمن استمرار دور سوريا كساحة صراع.
  2. الضغط نحو الدولة المدنية: يجب التركيز على دعم سيناريو الدولة المدنية الديمقراطيةالقائم على المواطنة والمؤسسات المدنية لكسر حلقة الاستبداد المزمن. يتطلب هذا دعمًا ماليًا وسياسيًا مشروطًا للسلطة الانتقالية الحالية، مع ضمانات لحقوق وتمثيل الأقليات.
  3. شروط صارمة للتعامل مع العائدين: في حال تحقق سيناريو عودة الأسد، يجب أن يكون التعامل معه مشروطًا بضمانات هيكلية (تفكيك الدولة العميقة والقمع الأمني) وليست تكتيكية، لضمان عدم استغلاله لأيّ سلام خارجي لزيادة قمعه الداخلي.

ج س

زر الذهاب إلى الأعلى