المرأة التي نسيها العالم: ١٨ عامًا من العزلة في جزيرة الرياح

في قلب المحيط الهادئ، وعلى جزيرة نائية تُدعى “سان نيكولاس”، وقعت واحدة من أكثر القصص الإنسانية غرابة وتأثيرًا في التاريخ. إنها قصة امرأة تنتمي إلى قبيلة “النيكولينو”، وهي من أقدم القبائل التي سكنت جزر كاليفورنيا. كانت هذه القبيلة تعيش بسلام وتناغم مع الطبيعة، قبل أن تصلها رياح التغيير في القرن التاسع عشر، حين قررت الحكومة الأميركية نقل السكان الأصليين من الجزيرة بحجة حمايتهم من الصراعات مع صيادي الفراء الروس الذين كانوا يستغلون ثروات المنطقة.

في عام ١٨٣٥، أُرسل مركب لإجلاء القبيلة بالكامل، وصعد الجميع إلى السفينة، باستثناء امرأة واحدة لاحظت وسط الزحام غياب أحد أفراد أسرتها. بعض الروايات تقول إنه ابنها، بينما يشير آخرون إلى أنه شقيقها الأصغر. دفعتها مشاعر الأمومة أو الأخت الكبرى إلى اتخاذ قرار مصيري، فقفزت من على متن السفينة وعادت تركض إلى الجزيرة، تنادي على أحبّتها وتبحث عنهم في كل زاوية. أما السفينة، فلم تنتظر، وأبحرت مبتعدةً نحو الأفق، حاملة معها آخر من تبقى من شعبها.

هكذا بدأت قصة المرأة التي نسيها العالم، والتي بقيت وحيدة على جزيرة خالية من البشر، تحيط بها الرياح والبحر والسماء فقط. في عزلة تامة، ومن دون أي لغة مشتركة أو تواصل، بدأت حياة مختلفة، صنعت فيها أدواتها من العظام، ونسجت ثيابها من ريش الطيور، وسكنت كهفًا مطلًّا على البحر. كانت كل صباح تقف على الحافة، تحدّق في الأفق، تنتظر عودة من رحلوا، تُحدّث الريح، وترجو السماء أن ترى ظلًا مألوفًا على الرمال. لكنها كانت وحدها.

مرت الأعوام كأنها دهور. ١٨ عامًا من الصمت والعزلة، من دون أن يشاركها أحد الحديث، أو يفهم لغتها، أو يسمع حكايتها. بمرور الوقت، تلاشت لغتها في حلقها، إذ لم يعد هناك من يرد عليها، أو يتبادل معها الكلمات. صارت تتحدث فقط مع نفسها، ومع الله، وتخبره عن وحدتها كل مساء.

في عام ١٨٥٣، وبعد أن ساد الاعتقاد بأنها توفيت منذ زمن، أُرسلت بعثة استكشافية بقيادة صياد روسي يُدعى جورج نيديف، بحثًا عنها. لم يفقد الرجل الأمل رغم مضي السنوات، وفي أحد الأيام، لمحها تسير على الشاطئ، امرأة نحيلة بملابس من الريش وشعر طويل لامع، تلوّح للغروب كأنها صديقة قديمة له. وعندما اقتربوا منها، لم تبدُ خائفة، بل مبتسمة، هادئة كأنها تنتمي إلى عالم آخر. تحدثت إليهم، لكن لم يفهم أحد كلمة مما قالت، إذ كانت تتكلم بلغة اندثرت مع اختفاء قبيلتها.

أعادوها إلى كاليفورنيا، وسمّوها “خوانا ماريا”، وأقاموها في كنيسة صغيرة وأحاطوها بالعناية، لكنها لم تكن تنتمي إلى ذلك المكان. لم يكن جسدها مهيّأً للتعامل مع أمراض العصر، فأُصيبت بعد أسابيع قليلة بالزكام، ثم بالحمّى، لتفارق الحياة بهدوء، كما عاشت. توفيت بعد سبعة أسابيع فقط من عودتها إلى “الحضارة”، التي لم تفهمها ولم تستطع التأقلم معها.

رغم كل ما مرّت به، لم يُخصص لها سوى سطر بسيط في كتب التاريخ: “آخر امرأة من قبيلة النيكولينو… نجت من الوحدة، لكنها لم تنجُ من الحضارة.”

هكذا رحلت، بعد أن عاشت ما يعادل ٦٥٧٠ يومًا من الصمت والانتظار، دون أن يدرك العالم أنها كانت تنبض بالحب والخسارة والحنين. لقد كانت صدى لقصة شعب بأكمله، وحكاية عن الصبر، والإيمان، والوحدة التي لا يسمعها أحد… سوى الريح.

زر الذهاب إلى الأعلى